ميشال نصر – ليبانون ديبايت
“بالطابور” يقف اللبنانيون عند محطات البنزين وأمام الأفران، وغداً على أبواب”الفَرمَشِيات”. و”بالدور”، يصل الموفدون الإقليميون والدوليون إلى بيروت في سباق على طريقتهم،علّ وعسى ينجحون في تحقيق خرق حكومي ما في الطريق نحو جهنم التي لم نصلها حتى الساعة، رغم الإصرار على بلوغها بأسرع وقت ممكن.
فعلى خطى الوزير المصري، سار موفد جامعة الدول العربية مستنسخاً المواعيد، ذاهباً أبعد في تبرير غياب شخصيات عن لقاءاته البيروتية، “حزب الله” بحسب التصنيف منظمة إرهابية، وإن وصله موقف حارة حريك بالواسطة. أما رئيس “التيار الوطني الحر”، فكان ب”الجبل” ولم يسمح له الوقت بالصعود إلى اللقلوق لزيارته. بالتأكيد “حجّة ما بتقلي عجة”. في الأساس زيارة السفير حسام زكي جاءت لزوم ما لا يلزم وتضييعاً للوقت.
قبلها كشفت رحلة الساعات العشر للضيف المصري، الكثير من الحقائق، أهمها واقع الحال الذي وصلت إليه العلاقة بين رئاسة الجمهورية والدول العربية الفاعلة. فبقدر ما كان الدعم للرئيس المكلّف بارزاً، بقدر ما كان عزل فريق “جنرال بعبدا” السياسي نافراً. سلوك مصري ما كان ليكتسب تلك الأهمية، لولا تعريجة الوزير شكري الباريسية، وما صدر بعدها من تصاريح فرنسية وضخّ إعلامي عن عقوبات، يعرف الجميع أن كأسها ما زال بعيداً في المدى المنظور، لألف حساب وسبب.
لم يكن صعباً على الكثير من المراقبين فهم حجم ونوع الرسالتين اللتين أرسلتهما بعبدا، واحدة مباشرة بالصوت والصورة، والثانية عبر تسريبات المصادر المعروفة. فكلتاهما حملتا، وباللهجة عينها، الرسالة نفسها إلى من هم في الداخل وقبلهم الخارج في آن واحد، حيث يكفي الربط بين كلام بعبدا المُباح والحركة الدبلوماسية العربية والفرنسية، لفكّ ألغاز المرحلة. وهنا تسجل ملاحظتان:
ـ الأولى، إرساء الرئيس عون معادلة جديدة عنوانها “التدقيق الجنائي مقابل الحكومة”، بعد تصعيد الخطاب ضد حاكم المركزي، الذي قرّر “غرندايزر السراي”، أن يطنّش على المعركة ضده ويبقى خارجها، لاعتبارات غير واضحة، داعماً موقفه بحركة في الشارع تولاها “الحرس القديم” الذي جرّ “التيار الوطني الحر” خلفه، في استعراض قوة لن ينتهي قريباً، حيث قرار المواجهة في الشارع الخيار الوحيد المتبقّي بعد استنفاد بعبدا كل الوسائل المتاحة، وبلوغ خطابها السياسي سقفه الأعلى.
كثيرون قرأوا رسالة “أنا الجنرال ميشال عون” في غير محلها، ووضعوها في إطار داخلي محض، رغم أن صاحبها قصد منها رسالة للخارج، وللفرنسيين و العرب خصوصاً، لتذكيرهم بأنه كما فعل عام ١٩٩٠ و”خربط” التسوية الدولية، هو مستعد اليوم لإعادة الكرّة بالعزم نفسه، وعناد أكبر، أعطاه إيّاه حقّ التوقيع الشرعي بوصفه رئيساً للجمهورية باعتراف الجميع في الداخل والخارج، خلافاً للوضع الذي كان قائماً في المرة السابقة، وهو أمر يأخذه الفرنسيون، بحسب أوساطهم، بكثير من الجدية التي تدفعهم إلى فرملة أي خطوات تصعيدية قد يفكر أو يدفع باتجاهها البعض.
ـ الثانية،إذا كان من المفهوم أن يسارع رئيس الجمهورية إلى فتح النار من بوابة التحقيق الجنائي، فإن غير الواضح حتى الساعة، خلفية التنصّل من المطلب التاريخي بضرورة تغيير الطائف، حيث يتبارى نواب “التيارالوطني” ومسؤولوه في التأكيد على سقوطه وموته.
فهل نجح الشيخ سعد في جرّ الرئاسة الى هذا الكمين المُحكَم؟ أم هي استراتيجية عونية لفكّ الحصار والتخفيف من الضغط؟
قد يكون الرئيس الحريري أصاب “البرتقاليين” بمقتل، بتركيزه خلال لقاءاته الخارجية على أن هدف الرئيس عون، هو قلب الطائف الذي طالما كان ضده، فكيف بالأحرى بعد فشل التسوية التي تحكّمت بوصول رئيس “التيار الوطني” إلى سدّة الرئاسة الأولى، خصوصاً أن حليفه المتحكّم بالجمهورية “ضارب عينه” على إرساء نظام مثالثة يشرّع مكتسبات ممارسات الأمر الواقع الحالي، والتي منطقياً، لا تشذّ “تقسيمة الثلاث ثلاثات” عنها، وهي البوابة التي تسلّلت عبرها رئاسة الجمهورية لصدّ الهجمة الحريرية، وإحراج بيت الوسط أمام حاضنته العربية، باتهامه بتسهيل مشروع “حزب الله”. فكما لعبة توازن التوقيع، هي اليوم لعبة الطائف والمثالثة، “روليت روسية” نهايتها انتحار عن سابق تصوّر وتصميم.
“مين غيّر عادته قلّت سعادته”، يقول المثل ويثبّته الواقع يوماً بعد يوم. فباعتراف الجميع، خصوم وحلفاء، لو بقي الرئيس عون “الجنرال” لكانت الظروف والأوضاع أفضل بكثير، على ما يعتقد الشاطر حسن بدوره…. ولكن أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً… فهل يعيد التاريخ نفسه؟